حسن سبانخ … بين السخرية … والحكم بالسجن مع الشغل والنفاذ

أحمد عفيفي

من رأى غير من سمع، ولقد رأيت وعشت تفاصيل هذه القضية من اولها لآخرها، لم اترك جلسة الا وحضرتها، فالمتهم فيها النجم عادل امام قبل ان يطلقوا عليه «الزعيم»، والقاضي فيها هو المستشار مرتضى منصور الذي صار اسمه بعد هذه القضية تحديدا ملء السمع والبصر. ان تحكم على نجم بقامة عادل امام، عادي، لا مشكلة ان كانت قضيته قضية شخصية، اختلس مثلا او ضرب «واحد في الشارع» وأحدث به عاهة مستديمة، هنا لا تعفيه نجوميته من العقاب مثله مثل المعلم «كرشة الجزار» والاسطى «جادون» العجلاتي، فالمفترض امام القانون يتساوى «الوزير والغفير»، لكن ان تحكم بالسجن لمدة عام مع الشغل والنفاذ على عادل امام بسبب فيلم قام ببطولته، فهذا ما اثار ضجة وقتها كانت حديث الشارع المصري لمدة طويلة.

والفيلم الذي احدث كل هذه البلبلة هو «الأفوكاتو» الذي كتب قصته وأخرجه رأفت الميهي، وبسببه أقيمت اكثر من مائة دعوى قضائية ضد عادل امام وحده من محامين كبار اعتبروا ان بطل الفيلم استهزأ بهم ومسح بكرامتهم الارض حين تقمص دور محام «أونطجي»، مهرج، يلعب بالبيضة والحجر، يتحايل على القانون ويبحث في ثغراته كي يبرئ متهمين ثبتت عليهم الادانة بدلائل دامغة.

لكن ليس هذا كله فقط ما أثار المحامين، فاسم عادل امام في الفيلم اثار غيظهم وملأهم غلا منه، فقد كان بطلنا في الأفوكاتو اسمه «حسن سبانخ»، واختيار الاسم له دلالته عند كاتب السيناريو، لكن ليذهب المخرج والمؤلف والمؤدي «في ستين داهية» ان كان فيلمه هذا سيجعل من المحامين «مسخرة» ويضعهم كلهم في بوتقة واحدة عنوانها «الاونطة والتهليب» والضحك على القضاة والمستشارين.

مسخرة

والحقيقة لا نستطيع ان نلوم المحامين في غضبتهم وثورتهم فقد كان حسن سبانخ بحق «مسخرة» مهمته الوحيدة في الحياة التلاعب بالقانون واستغلال ثغراته لانقاذ المجرمين وتجار المخدرات والنصابين الكبار، لكن من وجهة نظر اخرى فالمسألة تغلفها المبالغة الشديدة في ردة الفعل، فكم من فيلم قدم شخصية المحامي على هذا النحو، غير ان عادل امام

ـ لأنه عادل امام ـ كان تأثيره مدويا في الشارع اثناء عرض هذا الفيلم وبعده.

والحقيقة التي يجب ان نذكرها هنا ان الأفوكاتو لولا الضجة التي صاحبته وأثيرت حوله، لما كان من الاعمال الكبيرة التي تحسب لعادل امام، ولما لاقى هذا الإقبال الكبير بعد ان وصل الى ساحات المحاكم، حيث لم يفلح المحامون في استصدار قرار بوقف العرض وساعدوا ـ دون قصد بالطبع ـ في ملء خزينة المنتج، حيث الإقبال كان منقطع النظير على شباك التذاكر.

حتى وأنا اكتب الآن عن «الأفوكاتو» لا اجد ـ ربما ـ ما أقوله عن الفيلم، ليس له بداية ووسط ونهاية شأنه شأن الدراما المعتادة، مجرد محام بهلوان «يسرق الكحل من العين» ويترافع امام القضاة بشكل هزلي، لكنه في النهاية يأتي بالبراءة لموكليه ويقبض منهم الملايين ويتفاخر بكذبه والاعيبه على اعتبار ان هذا هو المعتاد في زمن السرقات الكبرى والرقص على الحبال بمنطق «يا عزيزي كلنا لصوص» فلماذا نسجن لصا ونترك اخر؟ فلينعم الجميع بغنيمتهم المسروقة وعلى رأي عادل امام «اللي يعرف ابويا يروح يقوله».

كلنا لصوص

منطق كاتب ومخرج، «يا عزيزي كلنا لصوص»، وكأن النصب هو القاعدة والشاذ عنها هو الاستثناء، اكثر من فيلم خاصة بعد عصر الانفتاح الساداتي تحدث عن هذا الامر، لكن ليس بكل هذا الهزل الذي قدمه عادل امام، وعندما اقول «الهزل» لا اقصد الاستخفاف بالفيلم، لأن الهزل كان من ضرورات الدراما من وجهة نظر المؤلف والمخرج رأفت الميهي، يريد ان تصل رسالة من وراء شخصية «حسن سبانخ» غير ان رسالته لم تصل الا للمحامين الذين اتحدوا ضد الفيلم وعادل امام وكادوا يلقون بالاخير وراء القضبان.

ولأن بطل الفيلم هو عادل إمام، ولأن المفروض ان نضحك اذا ما رأينا هذا النجم، حشر المخرج لقطات كثيرة لم يكن موفقا فيها أبدا، ولم تثر المحامين فقط، بل المشاهدين ايضا، فالزوجة مثلا ـ أدت دورها الفنانة يسرا ـ ما ان ترى زوجها «سبانخ» الا وتخلع ملابسها وترتمي في أحضانه سواء في البيت أو المكتب او المستشفى.. وهي مبالغة لاستدرار الضحكات من الجمهور، غير انها لم تضحك الا مؤلفها.

أيضا بالغ الفيلم مبالغة سخيفة وهو يصور قاضيا على المنصة يغازل شاهدة فـ«يلاعب حواجبه» لها قائلا: «قوليلي ياحلوة.. ايه معلوماتك عن الموضوع»؟

السيد «ملوخية»

ونعود الى القضية التي كانت مثيرة في الواقع أكثر مما هي مثيرة على الشاشة، فبعد ان رفع المحامون قرابة المائة قضية يطالبون فيها بمعاقبة عادل إمام وحبسه، حضرت إحدى الجلسات ووجدت محاميا تقدم نحو المنصة وقدم نفسه لهيئة المستشارين قائلا: أنا المحامي سيد «ملوخية».. ضجت القاعة كلها بالضحك حتى هيئة المحكمة نفسها لم تتمالك نفسها وغرقت مثلنا جميعا في الضحك، وهذا ما أراده «السيد ملوخية» الذي بالطبع لم يكن هذا اسمه، لكنه أراد ان يدلل على ما أحدثه اسم «سبانخ» من سخرية مقيتة بالمحامين، وعلى الضرر البالغ الذي وقع عليه وعلى زملائه من مجرد ان اسم المحامي في الفيلم «سبانخ»، ومضى المحامي في مرافعته أمام المستشار مرتضى منصور بعد ان ذكر اسمه الحقيقي: نحن وأنتم قوام العدالة في مصر، اذا اهتز هذا الصرح اهتز المجتمع بأكمله، فقد جعلنا المدعو عادل امام «مسخرة» بكل ما تحمله الكلمة من معان.

وتقدم محام آخر ومعه حقيبة ملابس، فتحها وأخرج منها ملابس (حريمي) داخلية بألوان مختلفة وقال: هل يعقل يا حضرات القضاة ان يخرج محام محترم ملابس زوجته الداخلية بطريق الخطأ ويعتذر لكم قائلا: «لا مؤاخذة.. اصلي مراتي مستنياني في العين السخنة عشان نحتفل بعيد جوازنا»، ثم يدس الملابس مرة أخرى في حقيبته ويخرج أوراق القضية؟

هل يعقل ان نهوي وننزلق بمستوى المهنة الوقورة الى هذا الحد من الاسفاف والتردي، فقط لإضحاك الجماهير؟

النطق بالحكم

طيلة حوالي 6 جلسات حضرتها كلها وكان عادل امام حاضرا الى ان جاءت جلسة النطق بالحكم وكانت القاعة مزدحمة عن آخرها بمحرري الصحف الذين استشعروا من الجلسات السابقة ان الجلسة الختامية ستأتي بمفاجأة بل قنبلة.. وقد كان، فدعوني أصفها لكم تفصيلا:

الساعة الحادية عشرة صباحا.. المكان.. محكمة بولاق الدكرور، القاعة رقم 4.. عادل إمام يجلس في اول الصف مرتديا نظارة سوداء متجهما جدا على غير عادته.

لحظات.. دخل الحاجب: محكمة.

وقفنا جميعا ومعنا عادل إمام، ودخلت هيئة المحكمة يرأسها المستشار مرتضى منصور.. جلست الهيئة وجلسنا.

ونادى الحاجب: عادل امام محمد .

رد امام واقفا: أفندم.

نظر اليه المستشار مرتضى منصور وأمره بان يدخل قفص الاتهام مشيرا بيده الى جهته.

لم يصدق عادل امام ما سمعه وسأل باستنكار شديد: أنا أدخل القفص؟ فرد مرتضى منصور: ايوه.. حضرتك حاتدخل القفص عشان انطق بالحكم.

حاول عادل امام ان يستوعب الموقف ولعله في لحظتها ظن انه يؤدي دورا في عمل سينمائي، لكن الصدمة أوجعته وأرجعته بسرعة الى الواقع الذي رآه اليما.. فأعاد السؤال بدهشة اكبر: أنا ادخل القفص؟!

داخل القفص

وهنا علا صوت مرتضى منصور وتجهم وجهه وأمره بدخول القفص طواعية، بدلا من جره وإلقائه داخله.

فوقف عادل إمام بثبات يحسد عليه وقال: لا يا سيادة القاضي مش عادل امام اللي يدخل القفص.

وأحس مرتضى منصور بالحرج الشديد من تحدي إمام له، ولم يستطع إرغامه على التنفيذ، فاعتدل في جلسته واصدر الحكم: حكمت المحكمة حضوريا على المتهم عادل امام محمد بالسجن لمدة عام مع الشغل والنفاذ.

وفي هذه اللحظة حدث هرج ومرج شديدان داخل القاعة وطار الخبر أسرع من البرق الى جهات عليا، وبعد 15 دقيقة من رفع الجلسة عاد مرتضى منصور مرة اخرى الى القاعة وكانت المفاجأة أكثر سخونة من الحكم بحبس عادل امام.

جلس مرتضى منصور على كرسيه قائلا: هدوء من فضلكم.. ثم امسك بالقلم وكتب وهو يردد ما يكتبه بصوت عال: أدركت ان القانون في مصر لا يطبق الا على الغلابة.. لذا أتقدم باستقالتي من فوق منصة العدالة، وكرر كلمة «العدالة» كأنه يؤكد غيابها أو لنقل عجزها عن محاكمة الكبار.

أشهر المحامين

المدهش ان مرتضى منصور بعد استقالته اشتغل بالمحاماة ليصبح واحدا من أشهر المحامين في مصر وليصبح ايضا عضوا في مجلس الشعب وشخصية عامة يشار اليها بالبنان، وما من مرة أراد فيها ان يعبر عن نزاهته وشجاعته الا ويذكر واقعة او موقعة عادل امام واستقالته بسببه من فوق المنصة، رغم تأكيده ان «ما محبة الا بعد عداوة»، ملمحا الى الصداقة القوية الآن بينه وبين النجم الكبير.

لكن تبقى في حلق عادل إمام شوكة كلما تذكر ان الوحيد الذي تجرأ عليه وأصدر حكما بحبسه هو مرتضى منصور الذي رغم تأكيده المستمر على صداقته بـ«الزعيم» لا يفوت مناسبة الا ويقول مفاخرا: «أنا اللي حكمت على عادل إمام في عز مجده بالسجن».

نقلا عن جريدة النبأ

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في نشرتنا البريدية

آخر المستجدات في بريدك الالكتروني في صباح كل يوم

اقرأ أيضا